• أن تمرض في دولة نامية..

                                                          

         أن تمرض في دولة نامية..                                                            

     

    في البلدان النامية وحدها, يتناسى الفرد السليم المرض عمدا. إما للنقص الحاد في المعرفة العلمية و الثقافة الصحية لديه , بالنظر إلى مستواه في التربية و التكوين على سبيل المثال. أو لادراكه التام حقيقة المرض و تبعاته المكلفة. أيا يكن, فعدم التفكير في امكانية الإصابة بمرض, و عدم الاكتراث كثيرا للجانب الصحي في الحياة, قد يكون عاملا مهما, نفسيا بالدرجة الأولى, مساعدا للفرد في تخطي هواجس التفكير المفرط  في الصحة  و تأثيراتها السلبية. لأن مجرد تفكير في احتمال الاصابة بوعكة صحية سيقودك نحو التفكير في تلك المستشفيات الرديئة, حيث لا ينعم المريض بالرعاية الكافية و الملائمة. بل أكثر من ذلك, لما 'يتعرض' المريض للاهمال و الابتزاز و المتاجرة, و سوء الرعاية الصحية. ذلك كله يجعلك تتناسى أمر المرض و العلاج  معا. أو تتخذ لنفسك بديلا عند الحاجة, أبعد ما يكون عن عالم الطب الحديث, و خباياه الغامضة.

          إن التفكير المفرط في الصحة الشخصية, سيقودك أيضا  نحو الصيدلية, و معرفة الأدوية المتنوعة التي تعرضها, و جلها باهض الثمن. فالحصول على الدواء مرحلة مهمة في رحلة المريض بحثا عن العلاج, بعد مرحلة التشخيص و ما تتطلبه من إمكانات مادية  لا يوفرها أيا كان. في البلدان الفقيرة, يتسبب المرض في ضائقة مالية تقض مضجع الكثير من الأسر  . ومنها من تلجأ إلى الاقتراض أو التسول لتجاوز مخلفات المرض. في هذه البلدان, تكثر جمعيات المرضى, و تحضر منظمات الصحة, و قبلها شركات صناعة و ترويج و تصريف الدواء و لوازم الطبابة. و تتزايد طلبات  تقديم العون المالي للمرضى قصد العلاج .  الأهم من ذلك, لما ينتشر الطب البديل, و يصبح بذلك حلا للكثيرين ممن يكنون 'العداء' للطبيب و الصيدلي على حد سواء. غير أن جلهم لا يدرك عواقب العلاج البدائي, و إن كان غير مكلف, أو كان قد أتبث نجاحه  في كثير من الحالات.

          في عالم الطب البدائي, هناك من أوكلت إليه مهمة علاج المرضى من العلل الكثيرة و المختلفة. و هناك مرضى كثر يقبلون على هذا النوع من العلاج بعيدا عن متاهات المستشفيات و عواقب الصيدليات. فقد يقتنع المريض 'النفسي' بنجاعة العلاج الروحي و يلجأ إلى فقيه أو شيخ, يتلو عليه ما تيسر من الذكر و الأذكار. أو يأخذ لنفسه قسطا من الراحة في ضيافة 'ولي صالح' أملا في العلاج. بعد أن تنازل عن خيار اللجوء إلى طبيب نفساني. لأن الأمر يتطلب جلسات علاج متتالية و مؤدى عنها.و من المرضى كذلك, من يبدي رغبته في تناول 'عشبة' ناذرة يوصي بها 'العشاب'. أو البحث عن 'مخلوق منقرض' تطلبه إعداد وصفة سحرية تتضمن أعشابا صحراوية و عسل مصفى.

     أما مرضى  العظام و المفاصل, فيلجؤون, كما هو معلوم, إلى 'الجبار' الذي يشرف على التخصص المذكور في العلاج الطبيعي.  و هناك من 'الجبارين' من بمقدوره  التشكيك في دقة كشوفات الكسور و الالتهابات التي يجريها الطبيبب الاختصاصي في المستشفى و إن كان الطبيب 'علميا' حتى النخاع, في كل مراحل الفحص و الكشف. هنالك أيضا من المعالجين من لا يزال يعتمد تقنية الكي  بالنار و الكبريت. و آخرون يقلعون الأضراس. هؤلاء لا يشفقون, و كثير منهم في الأسواق الشعبية. و هناك من يكتفي بارشاد المريض إلى حمام رمل في الصحراء يذيب فيه سقمه.

         في البلدان النامية وحدها, تكثر الأمراض, الظاهرة منها و الباطنة. تقل المستشفيات, و تسوء أحوالها. ترتفع تكاليف العلاج و الدواء, و يصير المريض مهملا تحت طائلة الفقر, مطالبا بالدفع المسبق و المستمر, و مندمجا, بشكل فعلى و تلقائي  في  دينامية ' سوق الأدوية السوداء'. في هذه البلدان, يتوجه المرضى نحو تبني الطب البديل. أحيانا تدفعهم مظاهر التقدم لتناول قرص دواء أو عيادة طبيب. أو عكس ذلك بالعودة إلى 'نظام الأعشاب الأصيلة', بعد 'فشل' الطب الحديث.

     في هذه البلدان 'يخطئ' الطبيب, فيقيم  كشوفاته 'المشبوهة' و يصححها  'جبار' ورث الطب عن أسلافه الأولين. و فيها تخضع الصحة العامة للاستغلال السياسي, و تشكل بذلك منبع صراعات و تطاحنات مجانية, لا تنتهي, و كأنه يراد للمريض, و قبله المرض 'نفسه'  الانتظار حتى يتعافى القائمون على قطاع الصحة من  أعراض 'الانحراف السياسي و الاقتصادي و الأخلاقي'. في هذه البلدان أيضا, تطلق صفارات الانذار, وتدخل على الخط منظمات الصحة وراء البحار. يتم توزع الأدوية  بالجملة, و هذه الأخيرة في الصيدليات المحلية كالذهب,أو أكبر منه قيمة. في هذه البلدان, تكثر 'نزلات البرد' و 'لسعات العقارب', و مواقف الساسة مد و جزر طوال العام. و مع كل حكومة جديدة, شعارات قديمة-جديدة تفيد بالدخول في الاصلاح القديم-الجديد المرتبط بقطاع الصحة.

       في هذه  البلدان , و رغم تخلفها في ميدان الصحة العامة, توجد مستشفيات ومصحات بمعايير عالمية. توفر خدمات صحية في منتهى الجودة. يشرف عليها أطباء أكفاء و نشيطون, و ممرضات وفيات, 'حسناوات', يرتاح المريض لمعاملتهن  و ينسى بذلك جزء مهما من مرضه. لكنها مستشفيات معدودات, و مصحات شعارها 'الصحة للبيع'.

     

    «
    Yahoo!

  • Comments

    No comments yet

    Suivre le flux RSS des commentaires


    Add comment

    Name / User name:

    E-mail (optional):

    Website (optional):

    Comment: